لغز دي. بي. كوبر — الرجل الذي اختفى في السماء
إعداد: قسم التحقيقات الدولية
تاريخ النشر: 2025
بعد مرور أكثر من نصف قرن، ما زالت قضية دي. بي. كوبر تمثل أحد أكثر ألغاز الجرائم غموضًا في التاريخ الأمريكي الحديث.
اختطاف طائرة مدنية، طلب فدية بمئتي ألف دولار، ثم قفزة في سماء عاصفة فوق غابات الشمال الغربي الأمريكي… وانعدام تام لأي أثر بعد ذلك.
هذه الحادثة تحولت من ملف جنائي إلى ظاهرة ثقافية لا تزال تُثير النقاش حتى اليوم.
الحقائق الأساسية للقضية
التاريخ: 24 نوفمبر 1971
الطائرة: Boeing 727 – رحلة رقم 305 التابعة لشركة Northwest Orient Airlines
المكان: من بورتلاند (أوريغون) إلى سياتل (واشنطن)
الفدية المطلوبة: 200,000 دولار نقدًا و4 مظلات
النتيجة: اختفاء كامل للمشتبه به، وعدم العثور على جثته أو المبلغ بالكامل
من هو دي. بي. كوبر؟
في الواقع، لم يكن هذا الاسم حقيقيًا. فقد حجز الرجل تذكرته تحت اسم “دان كوبر”، لكن أحد الصحفيين خلط الأسماء أثناء التغطية فانتشر اسم “دي. بي. كوبر” وأصبح ملازمًا للحادث.
كان الرجل في منتصف العمر، أنيقًا، مهذبًا، يدخن بشراهة ويشرب الويسكي، ولم يبدُ عليه أي توتر أثناء الرحلة.
بداية العملية
صعد كوبر إلى الطائرة في مطار بورتلاند متجهًا إلى سياتل. بعد الإقلاع بدقائق، سلّم المضيفة رسالة صغيرة كتب فيها:
“معي قنبلة في الحقيبة. أريدك أن تجلسي بجانبي.”
كانت الرسالة بداية لأغرب عملية اختطاف طائرة في التاريخ الأمريكي.
أظهر الرجل الحقيبة التي احتوت على أسلاك وبطاريات – ما بدا وكأنه عبوة ناسفة.
بهدوء شديد، أبلغت المضيفة قائد الطائرة بالمطالب. أراد كوبر 200 ألف دولار نقدًا، وأربع مظلات، وناقلة وقود جاهزة لإعادة تعبئة الطائرة في سياتل.
في سياتل: تسليم الفدية وبداية الغموض
استجابت السلطات بسرعة مذهلة. تم تجهيز الأموال والمظلات ونقلها إلى المطار.
عندما هبطت الطائرة، وافق كوبر على إطلاق سراح الركاب مقابل تسليمه الفدية.
لم يكن عدوانيًا، بل كان مؤدبًا ومهذبًا، يشكر الطاقم على تعاونهم.
بعد تزويد الطائرة بالوقود، أمر كوبر بالإقلاع مرة أخرى.
طلب أن تحلق الطائرة على ارتفاع منخفض (حوالي 10 آلاف قدم) وبسرعة لا تتجاوز 200 عقدة، متجهة نحو المكسيك.
لكن مصير الرحلة تغيّر في منتصف الطريق.
الاختفاء في الهواء
في حوالي الساعة الثامنة مساءً، شعر الطاقم بضغط مفاجئ وتذبذب في الطائرة.
كان هذا هو لحظة القفز. فتح كوبر باب الطوارئ الخلفي وقفز إلى المجهول، حاملاً حقيبة النقود ومظلة على ظهره، وسط أمطار غزيرة ورياح قوية.
لم يُرَ بعد تلك اللحظة أبدًا.
“سمعنا صوت ارتطام خفيف، ثم ساد صمت تام. بعد دقائق أدركنا أنه غادر الطائرة.”
— شهادة أحد أفراد الطاقم
عمليات البحث والتحقيق
بدأت أضخم عملية مطاردة في تاريخ مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI).
تم تمشيط الغابات والمناطق الجبلية الممتدة بين ولايتي واشنطن وأوريغون.
استخدمت القوات الكلاب المدربة والمروحيات، ولكن دون جدوى.
لم يُعثر على أي أثر لكوبر، لا المظلة، ولا الحقيبة، ولا النقود.
على مدى السنوات التالية، ظل الـFBI يلاحق عشرات الخيوط والبلاغات الكاذبة، واشتبه في عدد من الأشخاص، لكن لم يتمكن من توجيه تهمة مؤكدة لأي منهم.
وفي عام 2016، أعلن المكتب رسميًا إغلاق التحقيق بعد أكثر من أربعة عقود من البحث دون نتيجة.
العثور على دليل بعد تسع سنوات
في فبراير 1980، وبينما كان طفل في الثامنة من عمره يلعب على ضفة نهر كولومبيا في ولاية واشنطن،
عثر على حزمة من النقود متآكلة جزئيًا ومغطاة بالرمال.
كانت أرقامها التسلسلية مطابقة تمامًا لأموال الفدية التي استلمها كوبر.
هذا الاكتشاف أعاد القضية إلى دائرة الضوء، لكنه زادها غموضًا.
تحليل التربة أثبت أن الأموال دُفنت هناك لفترة طويلة، لكن لا دليل على أن كوبر هو من وضعها.
هل سقطت أثناء القفز؟ أم قام شخص آخر بإخفائها لاحقًا؟
الأسئلة ظلت بلا إجابة.
النظريات والاحتمالات
1. الوفاة أثناء القفز:
يرى المحققون أن الطقس العاصف والظلام جعلا القفز شبه مستحيل. يُعتقد أن كوبر لم ينجُ من السقوط.
2. النجاة والهروب:
يعتقد آخرون أنه كان مظليًا محترفًا وربما خطط لهبوط دقيق في منطقة محددة مسبقًا، ثم غيّر هويته تمامًا.
3. التواطؤ الداخلي:
هناك من يرى أن كوبر لم يكن وحده، وأن شخصًا من داخل شركة الطيران أو الأجهزة الأمنية ساعده.
4. الخدعة الكاملة:
نظرية أخرى تزعم أن كوبر لم يقفز أصلًا، بل اندس بين الركاب بعد الهبوط بطريقة مجهولة.
لماذا بقي اللغز حيًا؟
أسباب بقاء القضية دون حل عديدة:
نقص التكنولوجيا وقتها، صعوبة تتبع النقود نقدًا، غياب شهود مباشر، وتدمير بعض الأدلة مع مرور الزمن.
كما أن الغموض نفسه جعل الجمهور يتمسك بالقصة ويغذيها بمئات القصص الفرعية.
اليوم، تعتبر قضية دي. بي. كوبر نموذجًا دراسيًا في كليات القانون والجرائم الجنائية حول كيفية تعامل التحقيقات مع القضايا المفتوحة، وأهمية توثيق الأدلة مبكرًا قبل ضياعها.
الأثر الثقافي
تحولت القضية إلى رمز ثقافي في الولايات المتحدة.
ظهرت شخصية كوبر في أفلام ومسلسلات، من بينها Breaking Bad و Loki، وفي كتب وأغاني ومهرجانات سنوية تُقام لتكريم “اللغز الذي لم يُحلّ”.
بعض الباحثين يعتبرونه “روبن هود العصري” الذي تحدى النظام المالي، رغم أن دوافعه الحقيقية لا تزال مجهولة.
إغلاق الملف رسميًا… وفتح الباب للأسطورة
في يوليو 2016، وبعد 45 عامًا من التحقيق، أعلن مكتب التحقيقات الفيدرالي إغلاق ملف القضية رسميًا.
وجاء في البيان:
> “بعد مراجعة جميع الأدلة، لم نتمكن من تحديد هوية دي. بي. كوبر أو مصيره النهائي.”
لكن بالنسبة للعديد من المؤرخين، هذا لم يكن نهاية القصة بل بدايتها الحقيقية في الذاكرة الشعبية.
—
من منظور صحفي وتحقيقي، تُظهر هذه القضية هشاشة أنظمة الأمن القديمة، وتكشف كيف يمكن لفرد واحد بتخطيط دقيق أن يربك دولة كاملة.
كما تعكس الجانب الإنساني من الفضول الجماعي: رغبة البشر في تفسير المجهول وإعطاء معنى لما لا يمكن تفسيره.
ربما لم يكن دي. بي. كوبر مجرد مجرم أو مغامر، بل مرآة تعكس قدرة الإنسان على التحدي والمخاطرة.
ومع أن ملفه أُغلق رسميًا، إلا أن الغموض الذي تركه خلفه سيظل مفتوحًا إلى الأبد.