في كل موسم، تبحث نتفليكس عن قصة جديدة تستطيع أن تأسر الجمهور عالميًا. لكن هذا الخريف، قررت المنصة العودة إلى قلب أوروبا، إلى أيرلندا تحديدًا، لتكشف عن واحدة من أكثر الحكايات إثارة وغموضًا: قصة عائلة غينيس، الاسم الذي ارتبط عالميًا بالبيرة السوداء الشهيرة.
المسلسل الجديد بيت غينيس (House of Guinness)، من تأليف ستيفن نايت – مبتكر Peaky Blinders – لا يقدّم مجرد سرد لتاريخ عائلة ثرية، بل يضع المشاهد أمام صراع طبقي وسياسي امتد لأجيال، وامتزج بالفضائح العائلية والأسرار المظلمة.
الفكرة التي بدأت من مائدة عشاء
القصة تعود إلى الكاتبة إيفانا لويل، إحدى أحفاد العائلة، التي خطرت لها الفكرة أثناء حضورها لقاءً عائليًا في قصر “كاسلتاون” بمقاطعة كيلدير. بينما كانت العائلة تتابع حلقة من Downton Abbey، أدركت لويل أن تاريخ آل غينيس الحقيقي يفوق خيال المسلسل الإنجليزي الشهير إثارةً وتعقيدًا.

كتبت معالجة من عشرين صفحة، لتتحول بعد سنوات إلى تعاون مع ستيفن نايت، الذي رأى في هذه المادة مادة درامية متكاملة. والنتيجة: مسلسل ضخم من ثماني حلقات يُعرض على نتفليكس في سبتمبر 2025.
من مصنع صغير إلى إمبراطورية عالمية
ترجع جذور العائلة إلى آرثر غينيس، الذي أسس مصنع الجعة في دبلن عام 1759. بذكاء تجاري غير مسبوق، حوّل آرثر مشروبًا محليًا إلى علامة عالمية. وبحلول منتصف القرن التاسع عشر، كانت بيرة غينيس تُباع بالملايين يوميًا حول العالم.
لكن وراء النجاح التجاري، كان هناك واقع اجتماعي قاسٍ. أيرلندا كانت تعاني من الفقر والمجاعة والهجرة، بينما تعاظمت ثروات عائلات بروتستانتية مثل آل غينيس. هذا التناقض أصبح محورًا رئيسيًا في المسلسل.
—
إرث ثقيل وصراع بين الإخوة
يركّز بيت غينيس على مرحلة انتقالية في حياة العائلة بعد وفاة بنجامين غينيس عام 1868، وتركه لأبنائه الأربعة مسؤولية ضخمة.
آرثر: الابن الأكبر، يرى نفسه الوريث الطبيعي، لكنه يُفاجأ بوصية والده التي تجبره على مشاركة النفوذ.
إدوارد: الأخ الأصغر، أكثر صرامة وحزمًا، يصبح شريكًا مسيطرًا، ما يشعل الصراع بينه وبين آرثر.
آن: الابنة الوحيدة، ورغم حرمانها من الميراث الكبير، تكرّس حياتها للأعمال الخيرية، لتصبح صوتًا مختلفًا داخل العائلة.
بنيامين الابن: وُصف بالضعيف والسكير، ليُستبعد من إدارة الأعمال.
هذا الصراع بين الأشقاء يعكس كيف أن الثروة قد تتحول إلى لعنة تُقسّم العائلات بدل أن تجمعها.
—
شخصيات إضافية تزيد التعقيد
أحد عناصر الجذب في المسلسل هو إدخال شخصية خيالية: شون رافرتي، رئيس مصنع الجعة الوسيم والذكي، الذي يؤدي دوره جيمس نورتون. رافرتي يمثل الطبقة العاملة التي صعدت بالكفاءة لكنها اصطدمت بسقف زجاجي لا يمكن تجاوزه.
وجوده في القصة يضيف طبقة جديدة من الدراما: رجل يملك النفوذ الفعلي في المصنع، لكنه يظل دائمًا تابعًا للعائلة، مهما بلغ دوره من أهمية.
—
السياسة في الخلفية
لا يمكن فهم أحداث بيت غينيس دون النظر إلى السياق السياسي لأيرلندا في القرن التاسع عشر.
كانت الحركات الثورية مثل الفينيون تسعى إلى تحرير البلاد من الهيمنة البريطانية.
في الوقت نفسه، ظلّت النخبة البروتستانتية – التي ينتمي إليها آل غينيس – متمسكة بامتيازاتها.
العمال الكاثوليك الذين كانوا أساس نجاح مصانع الجعة، لم ينالوا سوى الفتات.
هذا التوتر السياسي ينعكس في المسلسل، حيث تصبح مصانع غينيس رمزًا لصراع الهوية والسلطة في أيرلندا.
—
من “داونتون آبي” إلى “بيكي بلايندرز”: مقارنة لا مفر منها
منذ الإعلان عن المسلسل، بدأت المقارنات: هل سيكون بيت غينيس نسخة أيرلندية من Downton Abbey، أم أنه أقرب إلى Peaky Blinders؟
مثل داونتون آبي، يقدم المسلسل قصورًا فخمة وحياة أرستقراطية.
مثل بيكي بلايندرز، يغوص في صراعات السلطة، والجانب المظلم للعائلات الثرية.
لكن الاختلاف أن بيت غينيس يستند إلى وقائع حقيقية لعائلة لا تزال موجودة حتى اليوم، ما يمنحه طابعًا أكثر إثارة للجدل.
—
ردود فعل العائلة الحقيقية
إيفانا لويل أكدت أن أقاربها من آل غينيس لم يعترضوا على المشروع، بل شجعوا الفكرة. “نحن نمتلك حسًا كبيرًا من الدعابة تجاه تاريخنا، ولا نمانع في كشف بعض الغسيل العائلي”، تقول لويل.
لكنها أشارت أيضًا إلى أن الهدف لم يكن التشهير، بل تقديم صورة واقعية ومعقّدة: “لم أرغب أن يظهروا كأشرار، لكن الحقيقة أن أي رجل أعمال في تلك الحقبة كان عليه أن يكون قاسيًا ليبقى في القمة”.
—
خلف الكاميرا: لمسة ستيفن نايت
المخرج ستيفن نايت اشتهر بقدرته على تحويل قصص محلية إلى دراما عالمية. كما فعل مع عصابات برمنغهام في Peaky Blinders، يستغل هنا تاريخ آل غينيس ليكشف جانبًا غير معروف من أيرلندا.

اختياره لمواقع التصوير – من شوارع دبلن إلى أرصفة ليفربول – يضفي أصالة على العمل. أما الموسيقى التصويرية، فهي مزيج من الألحان الأيرلندية التقليدية مع إيقاعات عصرية، في محاولة لاستهداف جمهور الشباب.
—
هل يحقق النجاح العالمي؟
يعتمد نجاح أي عمل تاريخي على قدرته على جذب جمهور لا يهتم بالتاريخ. بيت غينيس يمتلك كل العناصر:
دراما عائلية غنية بالصراعات.
خلفية سياسية واجتماعية عميقة.
شخصيات معقدة ومتشابكة.
إنتاج ضخم يضاهي أضخم أعمال نتفليكس.
التوقعات تشير إلى أن المسلسل قد يصبح “داونتون آبي الجديد”، لكن بطابع أكثر جرأة وقتامة.
—
أثره على صورة أيرلندا
أكثر ما يميز المسلسل هو أنه لا يكتفي بحكاية الأسرة، بل يسلّط الضوء على أيرلندا نفسها: بلد عاش انقسامات دينية وطبقية عميقة. بالنسبة للمشاهدين العالميين، قد يكون هذا المسلسل نافذة لفهم تاريخ معقد قلما يُعرض في الدراما العالمية.
كما أن ظهور أيرلندا كخلفية رئيسية قد يدعم السياحة الثقافية، مثلما فعل Game of Thrones في شمال أيرلندا.
—
خاتمة: قصة عائلة، مرآة لمجتمع
في النهاية، بيت غينيس ليس مجرد مسلسل عن بيرة أو عائلة ثرية، بل هو عمل يطرح أسئلة أوسع:
كيف تُبنى الإمبراطوريات على حساب الطبقات الدنيا؟
كيف يمكن للثروة أن تفرق الأشقاء بدل أن تجمعهم؟
وهل يستطيع التاريخ العائلي أن يعكس ماضي أمة بأكملها؟
هذه الأسئلة تجعل من المسلسل أكثر من مجرد ترفيه، بل تجربة فكرية وثقافية، تُعيد إلى الأذهان أن وراء كل علامة تجارية عالمية حكايات إنسانية لا تقل إثارة عن أي عمل خيالي.

حقوق الطبع والنشر © 2025 موقع أهل كايرو – جميع الحقوق محفوظة.
تحرير فريق موقع اهل كايرو
يمكن مشاهدة مسلسل بيت غينيس حصريًا عبر منصة نتفليكس ابتداءً من سبتمبر 2025.